قبل أكثر من عام كتبتُ مقالاً قصيراً لم يُقدر له النشر حمل عنوان "بين المنتج والمتفرج" وكان في أعقاب اتفاقيات التطبيع بين "إسرائيل" والإمارات العربية المتحدة، وتناول المقال الهرولة الرسمية نحو "إسرائيل" ويكأنهم ينتظرونها منذ وقت بعيد، بالإضافة إلى ما أظهرته هذه الاتفاقيات من حالة العجز التي أصبحت ملازمة للشعوب العربية بأسرها سيما الفلسطيني على مستوى قيادته الرسمية الممثلة بالسلطة الفلسطينية أو الشعبية المتمثلة بالفصائل والتنظيمات بكافة أطيافها، حتى بات حالنا أشبه بمن يتصفح شبكة التواصل الاجتماعي "الفيسبوك" يتابع ويتأثر بالمحتوى دون أن يمتلك أي قدرة على الفعل أو التغيير سوى أن يضع علامة إعجاب أو أن يعبر بالرفض عبر تعليق.
في الحقيقة تمسكت بهذه الفكرة ولم تفارقني أبدا وبل كنت أنظر لها حتى وقعت جولة المواجهة الأخيرة بين غزة و"إسرائيل" وما تلاها من أحداث، والتي رشحت عنها سواء الحالية منها والمستقبلية، والتي بالتأكيد شكلت نقطة تحول هامة -لا ينكرها إلا جاحد- في طبيعة المواجهة مع "إسرائيل" فبينما كانت أهداف المقاومة سياسية بامتياز وفرض معادلات جديدة على أرض الواقع ترسم خطوط المرحلة المقبلة خصوصاً في القدس كانت أهداف الأخرى عسكرية بحتة والتي فشلت في الحد من اتساع دائرة الحدث الميداني، وانعكاساته على مستوى الضفة وغزة وفلسطينيي المناطق المحتلة عام 1948، بالإضافة إلى فلسطينيي الشتات، والأهم من ذلك كله النجاح في تقليب الرأي العام العالمي لصالح القضية الفلسطينية، كما شكلت افتتاحية المواجهة عاملاً هاماً في إنتاج المشهد حسب الإرادة الفلسطينية وتحقيق بعض الأهداف المحددة له وفي مقدمتها الربط بين غزة والقدس ميدانياً ومعنوياً، كما كان لإدارة النار أو ما يمكن تسميته " اقتصاد الذخيرة" والرشقات الصاروخية المتتالية الأثر البالغ في التحكم بالصورة في غزة أولاً كإجبار "إسرائيل" على التوقف عن قصف الأبراج السكنية كما خطط لها من قبل إدارة بنك الأهداف العسكرية الإسرائيلية وفي المدن المحتلة والشلل الذي أصاب مناحي الحياة اليومية فيها ثانياً، أود التنويه هنا إلى أن تحديد ساعة القصف مشهد آخر لا يحمل في طياته حرباً نفسية تجاه "إسرائيل" ورافعة للروح المعنوية للفلسطينين فقط بل يمكن لنا أن نراه محاولة للسير حسب قواعد القانون الدولي والمتمثل بضرورة التحذير قبل القصف، ذلك كله وصولاً حتى التفاهمات الجارية على قدم وساق حتى لحظة كتابة هذه السطور والإفلات من شَرك ربط ملف إعادة الإعمار بملف صفقة تبادل الأسرى.
قرية بيتا كان لها الدور في تبديد هذه الفكرة من ذهني أيضاً، حيث أثبتت المقاومة الشعبية بمعناها الحقيقي لا المحرف أنها قادرة على إنتاج واقع مرض يمكن تعميمه وتطبيقه في شتى المناطق ذات قدرة على تحقيق إنجازات سريعة مقارنة بمدة مقاومة المحتل، كما أن توفر الصمود ومقوماته وطول النفس في العمل المرافق للإرادة والدعم الشعبي مع وضوح الهدف والوسيلة سيؤتي أُكله، شريطة الانسلاخ من المصالح الضيقة والدعايات الإعلامية الحزبية.
إذا ً لا ريب بأن الشعب الفلسطيني شعباً وقيادته يمكن لهم أن ينتقلوا من مقاعد المتفرجين إلى ساحات صناعة الحدث أو إلغائه وذلك عبر التخطيط وإنتاج آليات الرد على الحدث قبل وقوعه واستباقه وعدم الركون إلى حدوثه وهجر مبدأ "بس يجي الصبي نصلي على النبي"، مما يوفّر المساحات الشاسعة للتحرّك قبل الحدوث، كما أن لتوظيف أصحاب القرار إنجازات المواجهة سياسياً توظيفاً يصب بالمصلحة العامة لا الخاصة الأثر في إنتاج الواقع المطلوب ايضاً.